فصل: فصل معنى الاستعاذة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.فصل معنى الاستعاذة:

ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عمَّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199]، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: {ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96- 98]، وقال تعالى في سورة حم السجدة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34- 36].
والشيطان في لغة العرب مشتق من شَطَن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان، عليه السلام:
أيما شاطِنٍ عصاه عكاه ** ثمّ يُلْقى في السِّجْن والأغلال

فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط.
وقال النابغة الذبياني- وهو: زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذُبْيان-:
نأت بسعاد عنك نَوًى شَطُونُ ** فبانت والفؤادُ بها رَهِينُ

يقول: بعدت بها طريق بعيدة.
وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان إذا فَعَل فِعْل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا: تشيط.
والشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل ما تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانًا، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن»، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم».وفي صحيح مسلم عن أبي ذر- أيضًا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود». فقلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر فقال: «الكلب الأسود شيطان».وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ركب برْذونًا، فجعل يتبخْتر به، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح.
والرّجيم: فعيل بمعنى مفعول، أي: إنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6- 10]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16- 18]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر.

.تفسير الآية رقم (1):

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}.
افتتح بها الصحابةُ كتاب الله، واتّفق العلماء على أنها بعض آية من سورَة النمل، ثمّ اختلفوا: هل هي آية مستقلة في أوّل كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أوّلها، أو أنها بعض آية من أوّل كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها إنما كتبت للفصل، لا أنها آية؟ على أقوال للعلماء سلفًا وخلفًا، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضًا، وروي مرسلا عن سعيد بن جُبَير. وفي صحيح ابن خزيمة، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدّها آية، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف، عن ابن جُرَيْج، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عنها.
وروى له الدارقطني متابعًا، عن أبي هريرة مرفوعًا.
وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما. وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو هريرة، وعليّ. ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومكحول، والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، في رواية عنه، وإسحاق بن رَاهوَيه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، رحمهم الله.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقال الشافعي في قول، في بعض طرق مذهبه: هي آية من الفاتحة وليست من غيرها، وعنه أنها بعض آية من أول كل سورة، وهما غريبان.
وقال داود: هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل. وحكاه أبو بكر الرازي، عن أبي الحسن الكرخي، وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة، رحمهم الله. هذا ما يتعلق بكونها من الفاتحة أم لا. فأمَّا ما يتعلق بالجهر بها، فمفرّع على هذا؛ فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية من أوّلها، وأمَّا من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا؛ فذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفًا وخلفًا، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وحكاه ابن عبد البر، والبيهقي عن عمر وعليّ، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، وهو غريب. ومن التابعين عن سعيد بن جبير، وعِكْرِمة، وأبي قِلابة، والزهري، وعليّ بن الحسين، وابنه محمد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وسالم، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبي وائل، وابن سيرين، ومحمد بن المنْكَدِر، وعلي بن عبد الله بن عباس، وابنه محمد، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن أسلم، وعمر بن عبد العزيز، والأزرق بن قيس، وحبيب بن أبي ثابت، وأبي الشعثاء، ومكحول، وعبد الله بن مَعْقِل بن مُقَرِّن. زاد البيهقيّ: وعبد الله بن صفوان، ومحمد بن الحنفية. زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار.
والحُجَّة في ذلك أنها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها، وأيضًا فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم.
وروى أبو داود والترمذي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال الترمذي: وليس إسناده بذاك.
وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: صحيح وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين.
وقال الدارقطني: إسناده صحيح.
وروى الشافعي، رحمه الله، والحاكم في مستدركه، عن أنس: أن معاوية صلى بالمدينة، فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرّة الثانية بسمل.
وفي هذه الأحاديث، والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها، فأما المعارضات والروايات الغريبة، وتطريقها، وتعليلها وتضعيفها، وتقريرها، فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل، وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل.
وعند الإمام مالك: أنه لا يقرأ البسملة بالكلية، لا جهرًا ولا سرًا، واحتجوا بما في صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين. وبما في الصحيحين، عن أنس بن مالك، قال: صلَّيْتُ خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين. ولمسلم: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها. ونحوه في السنن عن عبد الله بن مُغَفَّل، رضي الله عنه.
فهذه مآخذ الأئمة، رحمهم الله، في هذه المسألة وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر، ولله الحمد والمنة.
فصل في فضلها:
قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره:
حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني، حدثنا سلام بن وهب الجَنَديّ، حدثنا أبي، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: «هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر، إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب».
وهكذا رواه أبو بكر بن مَرْدُويه، عن سليمان بن أحمد، عن عليّ بن المبارك، عن زيد بن المبارك، به.
وقد روى الحافظ ابن مَرْدُويه من طريقين، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن مِسْعَر، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتَّاب ليعلمه، فقال المعلم: اكتب، قال ما أكتب؟ قال: بسم الله، قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: ما أدري. قال له عيسى: الباء بَهاءُ الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة».
وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب: زِبْرِيق، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُلَيْكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكره. وهذا غريب جدًا، وقد يكون صحيحًا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات، والله أعلم.
وقد روى جُوَيبر، عن الضحَّاك، نحوه من قبله.
وقد روى ابن مَرْدُويه، من حديث يزيد بن خالد، عن سليمان بن بريدة، وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية، عن ابن بريدة، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت عليّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري، وهي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
وروي بإسناده عن عبد الكبير بن المعافى بن عمران، عن أبيه، عن عمر بن ذَرّ، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزل {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورُجِمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه.
وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ليجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد، ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: «فقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها» لقول الرجل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا تميمة يحدث، عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تَعِس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان. فإنك إذا قلت: تعس الشيطان تعاظم، وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت: باسم الله، تصاغر حتى يصير مثل الذباب».
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد روى النسائي في اليوم والليلة، وابن مَرْدُويه في تفسيره، من حديث خالد الحذاء، عن أبي تميمة هو الهجيمي، عن أبي المليح بن أسامة بن عمير، عن أبيه، قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال: «لا تقل هكذا، فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل: بسم الله، فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة». فهذا من تأثير بركة بسم الله؛ ولهذا تستحب في أوّل كل عمل وقول. فتستحب في أوّل الخطبة لما جاء: «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم»، وتستحب البسملة عند دخول الخلاء ولما ورد من الحديث في ذلك، وتستحب في أوّل الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن، من رواية أبي هريرة، وسعيد بن زيد، وأبي سعيد مرفوعًا: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه»، وهو حديث حسن. ومن العلماء من أوجبها عند الذكر هاهنا، ومنهم من قال بوجوبها مطلقًا، وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذكر، ومطلقا في قول بعضهم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وقد ذكر الرازي في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيت أهلك فسم الله؛ فإنه إن ولد لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات» وهذا لا أصل له، ولا رأيته في شيء من الكتب المعتمد عليها ولا غيرها.
وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة: «قل: باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك». ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه، وكذلك تستحب عند الجماع لما في الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا».
ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قولك: باسم الله، هل هو اسم أو فعل متقاربان وكل قد ورد به القرآن؛ أما من قدره باسم، تقديره: باسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]، ومن قدره بالفعل أمرًا وخبرًا نحو: أبدَأ ببسم الله أو ابتدأت ببسم الله، فلقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وكلاهما صحيح، فإن الفعل لابد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله، إن كان قيامًا أو قعودًا أو أكلا أو شربًا أو قراءة أو وضوءًا أو صلاة، فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله، تبركًا وتيمنًا واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم؛ ولهذا روى ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث بشر بن عُمَارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إن أوّل ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: قال له جبريل: قل: باسم الله يا محمد، يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم، واقعد بذكر الله.
هذا لفظ ابن جرير.
وأما مسألة الاسم: هل هو المسمى أو غيره؟ ففيها للناس ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال فخر الدين الرازي- وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري- في مقدمات تفسيره:
قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير التسمية، وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا: أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم نقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.
ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى، بأنه قد يكون الاسم موجودًا والمسمى مفقودًا كلفظة المعدوم، وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحدًا والمسميات متعددة كالمشترك، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى، وأيضا فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها، وأيضًا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك، ولا يقوله عاقل، وأيضا فقد قال الله تعالى: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا»، فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى، وأيضا فقوله: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} أضافها إليه، كما قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74، 96] ونحو ذلك. والإضافة تقتضي المغايرة وقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} أي: فادعوا الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره، واحتج من قال: الاسم هو المسمى، بقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] والمتبارك هو الله. والجواب: أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة، وأيضا فإذا قال الرجل: زينب طالق، يعني امرأته طالق، طلقت، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق، والجواب: أن المراد أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي غير الاسم أيضا، والله أعلم.
{الله} عَلَمٌ على الرب تبارك وتعالى، يقال: إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22- 24]، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، كما قال تعالى: {وللهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وفي الصحيحين، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة»، وجاء تعدادها في رواية الترمذي، وابن ماجه وبين الروايتين اختلاف زيادات ونقصان، وقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم: ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور، وألف في اللوح المحفوظ.
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى؛ ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل ويفعل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له. وقد نقل القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم، وروي عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة. قال الخطابي: ألا ترى أنك تقول: يا الله، ولا تقول: يا الرحمن، فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام. وقيل: إنه مشتق، واستدلوا عليه بقول رؤْبَة بن العَجّاج:
لله در الغانيات المُدّه ** سبحن واسترجعن من تألهي

فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر، وهو التأله، من أله يأله إلاهة وتألهًا، كما روي أن ابن عباس قرأ: {ويذرك وَإلاهَتَك} قال: عبادتك، أي: أنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد، وكذا قال مجاهد وغيره.
وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ} [الأنعام: 3] أي: المعبود في السماوات والأرض، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، ونقل سيبويه عن الخليل: أن أصله: إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة، قال سيبويه: مثل الناس، أصله: أناس، وقيل: أصل الكلمة: لاه، فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ** عني ولا أنت دياني فتخزوني

قال القرطبي: بالخاء المعجمة، أي: فتسوسني، وقال الكسائي والفراء: أصله: الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية، كما قال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] أي: لكن أنا، وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي: ثم قيل: هو مشتق من وله: إذا تحير، والوله ذهاب العقل؛ يقال: رجل واله، وامرأة ولهى، وماء موله: إذا أرسل في الصحاري، فالله تعالى تتحير أولو الألباب والفكر في حقائق صفاته، فعلى هذا يكون أصله: ولاه، فأبدلت الواو همزة، كما قالوا في وشاح: أشاح، ووسادة: أسادة، وقال فخر الدين الرازي: وقيل: إنه مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] قال: وقيل: من لاه يلوه: إذا احتجب. وقيل: اشتقاقه من أله الفصيل، إذ ولع بأمه، والمعنى: أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل: مشتق من أله الرجل يأله: إذا فزع من أمر نزل به فألهه، أي: أجاره، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، وهو المنعم لقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] وهو المطعم لقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وهو الموجد لقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78].
وقد اختار فخر الدين أنه اسم علم غير مشتق البتة، قال: وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء، ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه:
منها: أنه لو كان مشتقًا لاشترك في معناه كثيرون، ومنها: أن بقية الأسماء تذكر صفات له، فتقول: الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل أنه ليس بمشتق، قال: فأما قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ} [إبراهيم: 1، 2] على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان، ومنها قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدًا غير مشتق نظر، والله أعلم.
وحكى فخر الدين عن بعضهم أنه ذهب إلى أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي، ثم ضعفه، وهو حقيق بالتضعيف كما قال، وقد حكى فخر الدين هذا القول ثم قال: واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة؛ فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام وجرها لغتان، وقيل: إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت.
وأصل ذلك الإله، فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أوّلها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة، وفخمت تعظيما، فقيل: الله.
{الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يُفْهِم حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك، كما تقدم في الأثر، عن عيسى عليه السلام، أنه قال: والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة.
وقد زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم وقد قال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد: أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: الرحيم عربي، والرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما. قال أبو إسحاق: وهذا القول مرغوب عنه.
وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته». قال: وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق.
قال: وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: هما بمعنى واحد كندمان ونديم قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك: رجل غضبان، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن: اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة، وقالوا: لعله أرفق كما جاء في الحديث: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وإنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».
وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه»، وقال بعض الشعراء:
لا تطلبن بني آدم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تغلق

الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبني آدم حين يسأل يغضب

قال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زُفَر، سمعت العَرْزَميّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم، قال: بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يُسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به؛ فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب، فصار يُضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به، والتأكيد لا يكون إلا أقوى من المؤكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التوكيد، وإنما هو من باب النعت بعد النعت ولا يلزم فيه ما ذكروه، وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] كما وصف غيره بذلك من أسمائه في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
والحاصل: أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك؛ فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص.
فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة؛ فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن، جيء بلفظ الرحيم ليقطع التوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء. ووجهه بذلك، والله أعلم.
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن، حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي: «اكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}»، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جُحود وعناد وتعنت في كفرهم؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير: وقد أنشد لبعض الجاهلية الجُهَّال:
ألا ضَرَبَتْ تلك الفتاةُ هَجِينَها ** ألا قَضَبَ الرحمنُ رَبى يمينها

وقال سلامة بن جندب الطهوي:
عَجِلتم علينا عَجْلَتينَا عليكُمُ ** وما يَشَأ الرّحْمَن يَعْقِد ويُطْلِقِ

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن: الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب، وقال: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن الحسن، قال: الرحمن اسم ممنوع.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو الأشهب، عن الحسن، قال: الرحمن: اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى.
وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قرآنه حرفًا حرفًا {بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة من الكوفيين ومنهم من وصلها بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور. وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} قال ابن عطية: ولم ترد بهذه قراءة عن أحد فيما علمت.